Thursday, October 8, 2009

ألوان من وحي‮ ‬قمر المدينة الطرابلسية والمدن المسافرة




الفنان إنسان أدمن الفن وشرب حد الثمالة نخب الجمال،‮ ‬وضفافه إبداعه مترعة بأزهار الفن،‮ ‬والفن عند بعض منهم كزهرة لوز ترعرعت في‮ ‬كنف الطبيعة،‮ ‬والبعض الآخر أزهار‮ ‬يرنو إليها البصر بالنظر ويهفو إليها الأنف بالشم‮ ‬يستنشق عبق شذاها،‮ ‬فتستريح الروح لرؤياها وينبض على الإثر قلب إنسان بين جوانحه،‮ ‬ويستحوذ‮ ‬على العقل لب الجمال النابع من ألوانها فتورث المرء سحراً‮ ‬لا‮ ‬يضاهيه أي‮ ‬سحر وجوديٌ،‮ ‬وتورثه سعادة لا تمنحها كنوز الدنيا‮..‬ كما‮ ‬يرى كل فنان الفن وفقا لما‮ ‬يدور في‮ ‬عالمه الساكن في‮ ‬داخله،‮ ‬ووفقا للبيئة وللحياة التي‮ ‬يحياها والشعور الذي‮ ‬يتلذذ العيش به أو‮ ‬يتعذب به‮..‬ لقد كان‮ ‬يوما رائعاً‮ ‬ذاك الذي‮ ‬التقيت فيه بمجموعة من التشكيليين بــ(دار ليبيا للفنون‮) ‬الواقعة أمام شاهد من شواهد الحضارة الرومانية القديمة‮ (‬قوس ماركوس أوريليوس‮) ‬ليشكّلوا بأعمالهم فسيفساء من اللوحات ذات الالوان الصارخة التي‮ ‬تمثل العديد من المدارس التشكيلية والتقنيات المتنوعة التي‮ ‬لا‮ ‬يكل الإنسان الفنان ولا‮ ‬يمل وهو في‮ ‬تجريب ومثابرة من أجل الوصول للوحة تريحه كفنان وترضيه وتقنع حواسه والتي‮ ‬يعتقد هذه المرحلة التي‮ ‬لو قدر له الوصول إليها فإن رضاه مقرون برضا مريديه وعاشقي‮ ‬فنونه‮..‬

الفنان التشكيلي‮ "‬محمد الغرياني‮"..‬ ومن بين التشكيليين الذين كانوا هناك وشارك بعملين حديثين‮ ‬يعتمد فيهما على خامة الأكريلك،‮ ‬وأولاهما عبارة عن تكوين مجزّء،‮ ‬أما الثانية فهي‮ ‬لــ"فارس‮" ‬يرتدي‮ ‬الزي‮ ‬التراثي‮ ‬الوطني،‮ ‬وأعماله مجرّدة تجريدا كاملاً‮ ‬ومواكبة للحداثة وذلك في‮ ‬خطوة منه لجذب اهتمام المشاهد ومواكبة الحياة الفنية العصرية من حيث أشكالها وألوانها‮..‬ قمر المدينة الطرابلسية يستمد الفنان إلهامه من البيئة الطرابلسية ذات الخصوصية المتفردة التي‮ ‬طبعت نقوشها وألوانها ووجوه أهاليها‮ -‬الباسمة والحزينة‮- ‬في‮ ‬خافقه ومخيلته البكر،‮ ‬كما‮ ‬يستمد خصوصيات لوحاته من قمر المدينة الطرابلسية الذي‮ ‬يقعد في‮ ‬عينيه تارة بهيئة الملاك،‮ ‬ويقعد تارة أخرى بهيئة القلب المخضوضر من فرط الحب،‮ ‬ولجمال البحر المفعم بالكرم والجود تارة،‮ ‬والانتهازي‮ ‬الغادر الذي‮ ‬يسرق أجساد الناس في‮ ‬لحظة المرح تارة أخرى،‮ ‬تأثير من حيث الفرح والحزن‮.. ‬
وكل ذلك‮ ‬يشكل انعكاسا حقيقيا ونبيلا لذائقته التشكيلية التي‮ ‬يمكن وصفها بالشاعرية‮..‬ فلسفة الروعة والجمال الفنان‮ "‬محمد‮" ‬ذاكرة حقيقية لزمنه المعاش،‮ ‬يتميّز بخاصية فنية تشكل خصلة رائعة في‮ ‬العمل المنجز لديه الذي‮ ‬لا ترتبط جودته بزمن معيّن،‮ ‬فهذه الخاصية هي‮ ‬أن فكرة اللوحة التي‮ ‬هو بصدد إنجازها كفكرة الشعر تأتي‮ ‬للذهن في‮ ‬لحظات بارقة وغير متوقعة البتّة‮..‬ فكل مدارس التشكيل من الناحية الجمالية في‮ ‬إطار فلسفته جميلة ورائعة،‮ ‬والعمل الواقعي‮ ‬بكافة صُعده من ناحية اللون والنسبيّة والبعد عندما‮ ‬يمنحها الفنان تلك النواحي‮ ‬نفحة من روحه‮ ‬يشد المنجز حواس المشاهد ويمتعها بالنظر إلى الأعمال‮..‬ خصوصيات الرسام الشاعر خصوصياته تتمثل في‮ ‬ملمس لوحاته البارز‮ -‬خلافاً‮ ‬لما هو موجود ومعتاد على الساحة التشكيلية الليبية‮- ‬وهذا‮ ‬يمنح لنظر المشاهد بعداً‮ ‬أشبه بالبعد الثالث،‮ ‬ومن خصويات الفنان أيضاً‮ ‬أنه‮ ‬ينثر في‮ ‬الهواء لونه ممتّعاً‮ ‬إياه بالبرود،‮ ‬وهذا كفيل بأن‮ ‬يجعل من أعماله تدل عليه وليس هو من‮ ‬يدل عليها،‮ ‬كما‮ ‬يميل بديهيا وبكثرة مبالغ‮ ‬فيها إلى اعتماد اللون الأزرق الكحلي‮ ‬في‮ ‬لوحاته إلى جانب الأبيض نتيجة لتأثيرهما في‮ ‬لاوعيه ولاغني‮ ‬له عنهما في‮ ‬منجزاته‮..‬
المدن المسافرة الفنان التشكيلي‮ "‬عبد القادر بدر‮" ‬فنان شاب من مدينة بنغازي،‮ ‬انطلاقته جاءت عبر المرسم الجامعي‮ ‬بجامعة قاريونس عام‮ ‬1986م،‮ ‬وأقيم أول معرض له في‮ ‬مهرجان‮ "‬النهر الصناعي‮ ‬العظيم‮" ‬عام‮ ‬1987م،‮ ‬قبل أن تتوالى مشاركاته في‮ ‬العديد من المعرض بأرض ليبيا‮.. ‬ يميل الفنان في‮ ‬أعماله إلى التجريد،‮ ‬ويستشفّ‮ ‬أعماله من خلال وحي‮ ‬التشكيلات الهندسية للمدن المسافرة نحو الحاضر،‮ ‬بأطلالها وأبوابها وشبابيكها،‮ ‬وعبر البيئة الليبية بأريافها وصحرائها وبحرها‮..‬ رسم‮ "‬عبد القادر‮" ‬الواقعي‮ ‬والزيتي‮ ‬والمائي‮ ‬في‮ ‬مراحله الأولى قبل أن‮ ‬يعتمد في‮ ‬لوحاته الأخيرة على مادة‮ "‬الأكريلك‮" ‬لبساطتها وسهولة التعامل معها‮..‬ الأبواب والشبابيك تعني‮ ‬له حكاية الناس والمدينة،‮ ‬كما تعني‮ ‬له أسرار البشر،‮ ‬فكما‮ ‬يقول‮: "‬وراء كل باب وشباك تدور حكاية خصبة‮"..‬ في‮ ‬حقبة الستينيات اهتم بالفسيفساء الرومانية وأكسبها الطابع التراثي‮ ‬الليبي،‮ ‬واستخدم فيها الورق المقوى بطريقة القصّ‮ ‬واللصق او ما‮ ‬يعرف بــ(الكولاج‮)‬،‮ ‬وقد شاهدت عملاً‮ ‬له‮ ‬يصوّر عناصر التراث الليبي‮ "‬الحويتة والخميسة والقرين‮" ‬مع الزخرف الموجود بالملابس والحلي‮ ‬القديمة‮..‬
الفنانة التشكيلية‮ "‬سعاد أحمد اللبة‮" ‬ باب وأفق من ألوان الذاكرة من الفنانات الشابات اللائي‮ ‬يسرن بخطىً‮ ‬ثابتة ومتطوّرة،‮ ‬ولديها العديد من الأعمال الجميلة التي‮ ‬شاركت بها في‮ ‬الكثير من المعارض وأذكر منها على سبيل المثال مجموعة من اللوحات التي‮ ‬تشكل لديها مكانة وذكريات خاصة وتتضمن حكاياها الجميلة‮.. ‬منها‮ (‬باب السعادة‮) ‬الذي‮ ‬أخفت خلفه‮ -‬ربما‮- ‬أسرار طفولتها وشبابها وهي‮ ‬ترفض البوح بما وراء هذا الباب المصنوع من ألوان الذاكرة من حكاوى وأسرار،‮ ‬لكن ربما هناك‮ ‬يقبع صوت الأمل القادم من بعيد وربما هناك من‮ ‬يستحق العثور على مفتاح هذا الباب ليكتشف اللغز‮.. ‬ اللوحة الثانية عنوانها‮ (‬الأفق‮) ‬وتمنح عبرها البصر امتداداً‮ ‬لا محدوداً‮.. ‬وترمز به للحريّة‮ ‬–ربما‮- ‬ولوحة أخرى عبارة عن مدينة،‮ ‬إذ نجد بأن الألوان التي‮ ‬اعتمدتها في‮ ‬المباني‮ ‬والطبيعة ذات نمط متفرّد لا‮ ‬يتسم بالواقعية أو ربما هو الواقعية بعينها‮.. ‬لوحة ذات معان كثيرة تنتمي‮ ‬أعمالها للمدرسة التجريديّة،‮ ‬وتستخدم عبر لوحاتها تقنيات اللون المائي،‮ ‬لا‮ ‬يمكن لمشاهدين اثنين أن‮ ‬يطلقا ذات الاسم على لوحة واحدة من لوحاتها،‮ ‬فأعمالها تتضمّن مواضيع عدة،‮ ‬وتضج بالايحاءت والمدلولات المتداخلة والمتشعّبة،‮ ‬ولذلك فهي‮ ‬تعمد في‮ ‬الغالب إلى عدم تسمية أعمالها،‮ ‬وتترك هذه المهمة للمشاهد حسب رؤيته‮..‬ مرآة روح وعقل وجسد الأجواء التي‮ ‬تستمد منها أفكار أعمالها تتجلّى في‮ ‬البيئة الليبية الجميلة،‮ ‬لغناها بالمعاني‮ ‬والقيم،‮ ‬كما أن نظرتها للحياة وما حولها،‮ ‬جوهرية،‮ ‬وليست متجرّدة،‮ ‬حتى أنني‮ ‬ظننتها قد ملكت المرآة التي‮ ‬تكشف السر الكامن في‮ ‬خلد الإنسان وهذا‮ ‬يوحي‮ ‬به قولها‮: "‬بأن العمل الفني‮ ‬عندها بمثابة مرآة الروح والعقل والجسد‮"‬،‮ ‬والرسم في‮ ‬فلسفتها‮ ‬ينبع من جسد آخر بداخلها،‮ ‬من روحانيتها،‮ ‬لا تجرؤ على كبح جماحه أو التحكم فيه‮..‬
الفنان التشكيلي‮ ‬محمد أبو ميس‮..‬ الراحل عبر دروب الفن فنان تجريدي‮ ‬لا‮ ‬يهدأ ولا‮ ‬يكله التجريب،‮ ‬والأخير عنده فن قائم بذاته،‮ ‬خاض عبر جميع المدارس ولا‮ ‬يمكن حصره في‮ ‬مرحلة أو قالب معين،‮ ‬إنما هو في‮ ‬سعي‮ ‬دؤوب لخلق توليفة بين التعبيريّة والرمزيّة والتجريديّة،‮ ‬خاض كذلك عبر المرحلتين التجريدية الانطباعية والغنائية،‮ ‬وهما مرحلتين‮ ‬يلعب خلالهما اللون دور البطولة‮..‬ تحسه من خلال أعماله‮ ‬يهدف لخلق توليفة موحدة بين الهوية العربية والليبية،‮ ‬ويفكر في‮ ‬كيفية صوغها في‮ ‬صياغات أخرى‮ ‬يقدمها للمتلقين الآخرين عبر العوالم المكانية والزمانية،‮ ‬بصورة مغايرة تتكلم بلسان أحوالهم‮ ‬– المتلقين‮- ‬بما تقتضيه ميولاتهم‮..‬ علاقة اللون بالجغرافيا والمعمار خاض عبر المرحلة الترابية،‮ ‬لا شعورياً،‮ ‬وطرحت أعماله‮ (‬تساؤلاً‮ ‬حول علاقة الهوية باللون؟‮) ‬ففي‮ ‬الأصل خلقنا من تراب‮ "‬طين‮" ‬ورجوعنا إليه،‮ ‬كما أن المساحة الجغرافية لليبيا تشكل ما نسبته‮ ‬ % 80 صحراء،‮ ‬بالإضافة إلى أن المرحلة التي‮ ‬تمر بها البلاد تمثل مرحلة التطوير العمراني،‮ ‬والعواصف الترابية تؤثر بشكل قوي‮ ‬وفاعل وطاغي‮ ‬على هويتنا‮.‬
©صحيفة أويا الالكترونية

No comments: